تابع صفحتنا ع الفيس بوك

الجمعة، 27 يونيو 2014

المسكوكات **


المسكوكات ** 

نشأتها وتطورها حتى القرن الأول الميلادي

علم المسكوكات :

هو العلم الذي يهتم بدراسة النقود أو العملة التي تصدرها السلطة الحاكمة ، على اختلاف أنواعها من دنانير ذهبية ودراهم فضية وفلوس نحاسية .
ولأن النقود أكثر بقاء من الشعوب والأماكن التي مثلتها لذلك فهى تستطيع أن تعيد لمخيلتنا صوراً حية لإمبراطوريات ودول اندثرت منذ زمن بعيد، وذلك من خلال الصور والكتابات التي نُقشت عليها. وهكذا تعد المسكوكات الإسلامية مصدر مهم من مصادر التاريخ الإسلامي ، فهي وثائق صحيحة يصعب الشك فيها لكونها أحدى شارات الملك أو السلطان . وفيما يلي عرض لأهمية دراسة علم المسكوكات الإسلامية .

أهمية دراسة علم المسكوكات الإسلامية



1-أهمية دراسة علم المسكوكات الإسلامية من الناحية السياسية :

كانت النقود إحدى شارات الحكم والسلطان ، والتي يحرص كل حاكم على اتخاذها بمجرد توليه الحكم بعد أن يعتلي عرش دولته ، وتتجلى أهمية النقود من الناحية السياسية فيما سجل عليها من أسماء خلفاء وملوك وحكام وأمراء وولاة ، كما أن تصنيف هذه النقود يساعد على دراسة الأسرات الحاكمة في التاريخ الإسلامي ، وضبط تواريخ حكمها بصورة دقيقة . كما أن تسجيل مدن الضرب على هذه النقود يوضح امتداد نفوذ كل حاكم ، والأقاليم الخاضعة له .
2 - أهمية دراسة علم المسكوكات الإسلامية من الناحية الدينية والمذهبية :
حملت النقود العربية الإسلامية ملامح العقيدة الإسلامية منذ تعريبها على يد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ، حيث نقش عليها البسملة وشهادة التوحيد وآيات من سورة الإخلاص ، كما سجل على النقود العربية الإسلامية الشعارات الخاصة بالمذاهب الإسلامية المختلفة ، فعلى سبيل المثال : نجد ان حكام الدولة الفاطمية الشيعية المذهب قد سجلوا على نقودهم العديد من العبارات التي تعكس أفكار ومبادئ المذهب الشيعي مثل : ( عليّ ولي الله ) ، ( عليّ أفضل الوصيين ووزير خير المرسلين )

3 - أهمية دراسة علم المسكوكات الإسلامية من الناحية الاقتصادية :

نجد أن النقود الذهبية كانت هي النقود الرئيسية في كثير من دول العالم الإسلامي وهي بذلك تعكس الحالة الاقتصادية للدول التي سكّتها ، لأن ارتفاع وزنها ونقاء عيارها كان دليلا على الازدهار الاقتصادي لتلك الدول كما هو الحال في العصرالطولوني والفاطمي ، كما أن انخفاض وزن النقود وتدهور عيارها كان دليلا على تدهور الحياة الاقتصادية في الفترة التي ضربت فيها كالذي حدث في العصر المملوكي الجركسي .

4 - أهمية دراسة علم المسكوكات الإسلامية من الناحية الاجتماعية :

إن النقود الإسلامية قد عبرت عن الكثير من مظاهر الحياة الاجتماعية التي تشهدها حكومات الدول المختلفة مثل الزواج والمصاهرة وحالات المرض والوفاة والمصالحة ، حيث كانت تضرب هذه النقود تخليداً لتلك المناسبات المهمة ، وكانت توزع كنقود صلة وهدايا على أولي الأرحام وكبار القواد والأمراء ، وكان ذلك يتكرر بكثرة خلال عصر الدولة الفاطمية . ومن أمثلة النقود التي ضربت في مناسبة وفاة : نقوداُ نحاسية ضربها السلطان الظاهر برقوق حاكم المماليك الجركسية وذلك سنة 799 هـ سجل عليها ( كفى بالموت واعظاُ ) وذلك لوفاة أبنه الصغير الأمير شعبان في ذلك العام .

5 - أهمية دراسة علم المسكوكات الإسلامية بالنسبة للخط العربي :

إن النقود العربية الإسلامية مدرسة لتعليم ودراسة الخط العربي وتطوره حيث وردعليها كتابات بالخط الكوفي وأنواعه المتعددة وكذلك ورد عليه كتابات بالخط النسخ وأنواعه ، وكانت النقود في هذا الشأن من أهم مصادر دراسة الخط العربي ومعرفة مراحل تطوره المختلفة .
6 - أهمية دراسة علم المسكوكات الإسلامية من الناحية الفنية :
ظهر على النقود الإسلامية زخارف نباتية وهندسية استخدمت كهوامش وفواصلبين الكتابات . كما ظهرت على النقود بعض الرسوم الآدمية والحيوانية التي كانت ترمز - في الغالب – إلى الخلفاء والحكام . ولا شك في أن الزخارف أياُ كان نوعها فهي تعد وسيلة مهمة من وسائل تأريخ النقود .
علم النقود، علم حديث بدأ يخطو خطواته الحثيثة غير العلمية ابتداءً من القرن السابع عشر وحتى القرن التاسع عشر وبعدها بدأ هذا الاهتمام بالنقود يأخذ طابعاً علمياً.
ويعد هذا العلم اليوم من العلوم الرئيسية والمتممة والمساعدة لعلم الآثار والتاريخ وفي بعض الأحيان المرجع الوحيد لها… ويشار إلى علم النقود في اللغات الأجنبية بشكل عام بكلمة Numismatic اشتقت من الكلمة اليونانية Nomisma والكلمة اللاتينية Numus ولا تدخل في هذه النقود طبعاً الأوراق النقدية التي بدئ بتداولها من القرن الثامن عشر، لأن هذا العلم يهتم بشكل رئيسي بالنقود المعدنية التي جرى صكها ابتداءً من القرن السابع قبل الميلاد، وحيث استعملت كوسيلة في أعمال المقايضة والدفع.
ونتسائل لماذا أصبحت النقود وسيلة ومجالاً لقيام علم خاص بها وسبباً لقيام أبحاث جديدة. والجواب هو أننا نجد على هذه النقود المعدنية أو ما يشابهها من مواد أخرى، معلومات تاريخية وفنية وثقافية ودينية وميثولوجية وحقائق شيقة مهمة، وهذه الحقائق تعكس التغييرات في الأحداث السياسية في بلد أو مدينة ما أو عن تطورها الثقافي وعقيدتها الدينية وعاداتها الاجتماعية.

لمحة تاريخية

استخدمت المجموعات البشرية الأولى قبل معرفتها للنقد كوسيلة للتعامل والتبادل، نظام المقايضة والمبادلة بالمنتجات والموارد والخامات الطبيعية، الزراعية، الحيوانية والصناعية المختلفة لتأمين مستلزماتها واحتياجاتها اليومية الضرورية، حيث تشير الدلائل والدراسات التاريخية والأثرية على استخدام الصينيين القدماء لمادة المحار والأصداف البحرية، كسلعة وسيطة في تسيير معاملاتهم التجارية اليومية، وذلك على النقيض من الشعوب اليونانية القديمة التي كانت قد اشتهرت بتصنيعها للأسلحة والأدوات الحربية، واستخداماتها كمادة رئيسية في عمليات التبادل والتقايض التجاري العيني مع الشعوب المجاورة، في حين تشير العديد من الدلائل على قيام الغالبية العظمى من الشعوب القديمة وحتى العصور الوسطى، باستخدام الرقيق والعبيد كسلعة معتمدة في نظام المقايضة على المنتجات، هذا إلى جانب اعتماد بعض المجموعات البشرية إلى مبادلة منتجاتها من المواد الزراعية بأخرى حيوانية أو صناعية، طبقاً للمهنة أو الحرفية التي يمارسها كل فرد من أفراد المجتمع، حيث يقوم بمبادلة إنتاجه بإنتاج آخر لم يكن قادراً أومختصاً بإنتاجه.
أما سكان بلاد الرافدين، تشير الوثائق والنصوص الكتابية القديمة إلى اعتمادهم الشعير المنتج في أراضيهم، ومعدن الفضة المستخرج من مناجم بلاد الرافدين، كسلعة وسيطة متعارف عليها في عملياتهم التجارية مع الجوار، هذا ما أكدته العديد من النصوص التشريعية الرافدية « كشريعة أورنامو السومرية »، وشريعة لبت عشتار التي سنها لبت عشتار خلال حكم سلالة إبسن 2017- 1794 ق.م ، وشريعة حمورابي 1894 - 1594 ق.م ، التي أتت في بعض نصوصها على ذكر العديد من العمليات التجارية التي كان يتم فيها تبادل المنتجات ودفع قيمتها من حبوب الشعير أو معدن الفضة.

غير أن تفاقم الصعوبات الناجمة عن عدم أو إمكانية تقسيم المواد الوسيطة المستخدمة في المقايضة والمبادلة، وكذلك تفاقم الجهد والتكاليف الناجمة عن صعوبة عملية المحافظة على حياة الحيوانات، وضرورة تأمين وتجهيز الأماكن الخاصة بربطها ورعايتها، هذا إلى جانب عدم إمكانية تامين وتجهيز المخازن والمستودعات المناسبة لحفظ الحبوب، وعدم تحمل الكثير من المواد الوسيطية للخزن الطويل، وازدياد عدد السكان وتطور المجتمع البشري والتحولات السياسية والاجتماعية الكبيرة التي جرت خاصة بين عامي 2000 – 1600 ق.م ، نتج عنها قيام دويلات عديدة ابتداءً من جزيرة القرم وحتى المناطق الشمالية السورية، بسبب انهيار الدولة الحثية التي دخلت في دائرة النفوذ الإغريقي و ذلك كما في ملحمة « طروادة » لهوميروس، وفي هذه الفترة أيضاً بدأت الدويلات باستعمال الحديد في صناعة الأسلحة، واستعمال العربة كوسيلة للنقل وافتتح الحصان بدوره حقبة تاريخية جديدة في الفن العسكري وشؤون النقل.
هذا كله دفع الإنسان إلى التفكير والبحث عن سلعة وسيطة أخرى، تكون أصغر حجماً، وأقل كلفة في الحفظ والتخزين والمبادلة... حيث كان لاكتشاف الإنسان القديم لمعدني الذهب والفضة، ومن ثم إدراكه لخواصه الفيزيائية، وسهولة تصنيعها وتقطيعها وقولبتها عند صياغة الحلي ومن ثم ارتفاع أثمانها، ومحافظتهما على قيمتها الشرائية على الرغم من تباين الوضع الاقتصادي للمجتمعات بين فينة وأخرى، الدور الأكبر الذي دفع المجتمعات القديمة إلى اعتمادها كأساس ومحور موثوق في عمليات التبادل والمقايضة بين المجتمعات كافة، حيث تشير الدراسات التاريخية إلى اعتماد المصريين القدماء لقضبان الذهب الخام الخالي من العلامات والرموز كمادة وسيطة مستخدمة في عمليات التبادل والمقايضة التجارية، التي كانت تتم من خلال الاتفاق بين البائع والشاري على مقدار وحجم القطعة الذهبية المعادلة للسلعة المراد مبادلتها بحيث يقوم المشتري باقتطاع جزء من القضيب الذهبي ومقايضته بالبضاعة المراد اقتناؤها.
غير أن عملية المبادلة بالقطع والحبيبات الذهبية الخالية من العلامات والرموز التي يتم قطعها عند المقايضة، ما لبث أن أخذت بالتراجع نتيجة الصعوبة الكامنة من عدم تمكن كلا الطرفين من تحديد القيمة الحقيقية للقطعة، ومن ثم اضطرار التاجر، أو البائع إلى إعادة صهر الحبيبات والقطع المتجمعة لديه وتحويلها إلى قضبان من جديد وما ينجم عن ذلك من صعوبات، قد دفعهم إلى التفكير بأساليب أخرى تعينهم على عمليات القص والقطع والصهر، وذلك من خلال تصنيع بعض الحبيبات الذهبية والفضية ذات الوزن المحدود.
غير أن تزايد عمليات الغش الناجمة عن عدم تحديد الوزن والقيمة الشرائية لكل قطعة بسبب صعوبة تقدير قيمتها الوزنية بواسطة النظر، قد دعا القائمون على تصنيع النقد بتثبيت الوزن الشرعي والقيمة المادية للقطعة الذهبية أو الفضيية على أحد وجهيها عند سكها أو ضربها، وذلك من خلال نقش أحد سطحي المسكوكة ببعض الرسوم والأرقام التي توضح وتحدد قيمتها الوزنية والشرائية.
هذا ما دعى الدارسين لتاريخ المسكوكات وتطورها إلى اعتبار التاريخ الذي استخدمت فيه عملية النقش للمسكوكة، بداية لتاريخ النقد الذي سيطر على أسلوب التعامل التجاري بين المجموعات البشرية مكان التعامل العيني، واحتل مكان الريادة في الموازنات الاقتصادية للشعوب والدول، التي بدأت تقيم اقتصادها بمقدار ملكيتها من المسكوكات الذهبية الفضية الصحيحة السكة والضرب.
وقد تم تحديد الفترات الزمنية التي مرت بها عملية التطور النقدي، وفق جداول زمنية محددة من قبل العديد من الباحثين والدارسين لتاريخ المسكوكات، الذين أكدوا على أن تطور نظام التبادل النقدي اليوناني والمشرقي قد مرَّ بست مراحل زمنية، حددت وفق الشكل التالي:
.1 المرحلة الاولى: من عام 700 – 480 ق.م ، وهو تاريخ بداية التعامل بالنقود والمسكوكات المعدنية ذات الأوزان والنقوش المحددة، وحتى بداية الحروب الفارسية في عام 480 ق.م.
.2 المرحلة الثانية: وتمتد من فترة الحروب الفارسية 480 ق.م وحتى نهاية سيادة أثينا في 400 ق.م.
.3 المرحلة الثالثة: وتمتد من فترة نهاية سيادة أثينا 400 ق.م وحتى فترة نهوض اسبرطة وفيليب المكدوني 336 ق.م.
.4 المرحلة الرابعة: تمتد من فترة السيطرة الاسبرطية وعصر فيليب المكدوني 336 ق.م ، وحتى نهاية عصر الاسكندر المكدوني 323 ق.م.
.5 المرحلة الخامسة: وتمتد من نهاية عصر الاسكندر المكدوني 323 ق.م وحتى بداية القرن الأول الميلادي.
.6 المرحلة السادسة: وتمتد من القرن الأول الميلادي وحتى حكم الأمبراطور الروماني جوليانوس.
من الأصول إلى الحروب الميدية
إن أقدم مكتشفات لمسكوكات إغريقية تم العثور عليها حتى وقتنا الحاضر من وجهة النظر الأثرية هي تلك التي وجدت في كنز أساس معبد أرتميس في مدينة ايفسوس- EFESOS ، وتالفت محتوياته على تماثيل صغيرة و مجوهرات إضافية إلى سبع وثمانين قطعة مسكوكة صغيرة كروية الشكل من معدن الألكتروم، وقد ظهرت مضروبة على أحد وجهيها مربعاً بارزاً،
« الألكتروم، خليط طبيعي من معدني الذهب والفضة ولم يلاقي نجاحاً فيما بعد».
وكان هيرودوت قد أكد في القرن الخامس ق.م ، ان الليديين هم أول من ضرب المسكوكات، وزودنا المؤرخ نفسه أيضاً بمعلومات هامة تتعلق بتاريخ المكتشفات في ايفسوس، واستناداً لشهادته فإن كريسوس ملك ليديا 561 – 546 ق.م ، ساهم هو نفسه في بناء معبد أرتميس، ولهذا يمكن أن يؤرخ المعبد ومعه المسكوكات في نهاية القرن السابع ق.م ، وتتفق هذه المعلومات مع تلك التي مدنا بها الفيلسوف « جينوفانيس - Jenofanes» من القرن السادس قبل الميلاد، ومن كتابات الفيلسوف جينوفانيس الدليل الأول حول المسكوكات الإغريقية، ونجد هذا في الألفي قطعة من الإيستاتيرات- Estatera التي تسلمها الشاعر السياسي ألزياس- Alceas ، من الليديين لدفع مصاريف الحملات العسكرية التي أعدت في السنوات الأولى من القرن السادس ق.م ، ومع ذلك قد ذكر المؤرخ الروماني « جوليوس بولوكس- Julius– Polux » في القرن الثاني ق.م، أن المسكوكات الإغريقية الأولى كان مصدرها جزيرة أريجينا التي ارتبطت بالملك فيدون من القرن السابع ق.م.
ويميل البعض في الوقت الحاضر إلى قبول النظرية الليدية أكثر، لأنها تعتمد على شواهد أقدم وأوثق، ومهما يكن من أمر فإن هذا يقودنا إلى الاستنتاج أن التاريخ التقريبي لوجود أول مسكوكة إغريقية هو في نهايات القرن السابع ق.م، في آسيا الصغرى، وأول معدن استخدم في ضرب المسكوكات هو الإلكتروم، الممكن العثور عليه بشكل طبيعي على ضفاف نهر « بوكتولو- Poctolo» في سارديس- Sardis عاصمة ليديا.
وينفذ ضرب المسكوكات بالقيام بطرق من معدن الالكتروم الصافي والجامد بواسطة سنبك مربع الشكل، هذا وقد تنوعت المسكوكات في البداية تنوعاً كبيراً وضربت معظمها من معدن الالكتروم على الرغم من أنه وجدت إلى جانبها مسكوكات ذهبية وفضية خالصة... والعلاقة التي كانت قائمة بين المعادن في الفترة الأولى لضرب المسكوكات لا تزال مجهولة لدينا تماماً، لهذا فإننا نجد أحياناً مسكوكة ذهبية قلصت حتى 30% دون أن يؤثر ذلك بشكل واضح على قيمتها.
في النصف الثاني من القرن السادس ق.م ، حصل تغيير هام فيما يخص ضرب المسكوكات، فقد قام ملك ليديا « كريسوس » بضرب مسكوكات ذهبية وفضية خالصة حلت محل المسكوكات المضروبة من معدن الألكتروم، وفي هذا الوقت تم البدء بتأريخ أولى المسكوكات المضروبة في القارة الأوربية، حيث كانت «ايجينا» المدينة الاوربية الأولى في ضرب المسكوكات، وهذا ما أكده لنا كل من « سترابون، وايفوروس» إضافة إلى كتب أخبار البارثيين التي حدثتنا عن قيام مدينة ايجينا وكان عليها الملك فيدون بضرب المسكوكات وقد نقش عليها صور السلاحف، كان الملك يأخذها فيما بعد ليقدمها قرباناً لمعبد هيرا في « أرجوس- Argos عام 668 ق.م » وتبع ضرب هذه المسكوكات قيام كل من أثينا وكورنثة وسيباريس- Sibaris ، وماتابونت- Mateaponte، وغيرها بضرب المسكوكات من معدن الفضة الخالص.

عكست المواضيع التي نقشت على المسكوكات الإغريقية غنى المجتمع الإغريقي وتنوعه الثقافي الكبير، فقد نقشت على كل قطعة مسكوكة صور للآلهة المحلية أو للرموز التي تمثل المدينة وغالباً ما كانت ذات دلالة دينية، وعرفت هذه الصور باسم « Parlantes أي شعارات» حيث أنه و بمجرد إلقاء نظرة سريعة عليها تخبرنا على الفور باسم المدينة العائدة إليها، ومن المألوف ظهور رؤوس آلهة وحيوانات تمثل المدينة، وكانت ترتبط عادة بالتأسيس الاسطوري للمدينة أو بعناصر طبيعية أخرى، أما مواضيع الرموز التي عرفت بها هذه المدن فهي " السلحفاة في ايجينا – البومة وغصن الزيتون في أثينا – الحصان المجنح في كورنثة – الوردة في رودوس – البطيخ الأصفر في ميلوس – النحلة في ايفسوس"
تميزت المسكوكات الأولى بظهور مربع بارز على ظهرها فقط، وكان القسم الأكبر منها خالياً من أي نوع من الكتابة، وظهرت في حالات نادرة الأحرف الأولى للمدينة مثل: PHI – رمز مدينة فوثيا.

وبناء على ذلك فقد قام الأثينيون باقتباس النظام الجديد وتطبيقه على إصلاحاتهم النقدية الصادرة من قبلهم المكونة من:

1. الأوبول: وهو أصغر أجزاء النقد = 1\6 من الدراخما.
2. الدراخما: وهي مضاعفات الأوبول، كل ستة أوبولات تعادل دراخما واحدة.
3. المينا: وهي كل مئة دراخما تعادل مينا فضية واحدة.
4. التلانت: وهو أكبر وحدة نقدية، قدرت قيمته الشرائية بستين مينا فضية.
ومن جانب آخر كان النقد اليوناني القديم يضرب وفق معيارين رئيسين وهما المعيار الايجي والمعيار الأوبي اللذان تباينا فيما بينهما من حيث وزن الدراخما واجزائها، وتشير الوثائق الكتابية على أن الوثنيين قد قاموا في بداية عهدهم باستخدام العيار الوزني الأوبي، الذي أطلق عليه عالمياً اسم نظام العيار النقدي الأتيكي الذي قد حدد القيمة الوزنية للدراخما بـ 16 غرام.
أثينا
وبناء على ذلك فقد قام الأثينيون باقتباس النظام الجديد وتطبيقه على إصلاحاتهم النقدية الصادرة من قبلهم المكونة من:
1) الأوبول: مسكوكة من الحديد أو البرونز، تعادل ثمان مسكوكات نحاسية، وكل ستة أوبولات تعادل دراخماً.
2) الدراخما: نقد فضي = 1\2 أستاتر، أو ستة أبولات.
3) الديداراخما: نقد فضي = 2 دراخما = 1 أستاتر = 12 أوبول.
4) التيترادراخما: نقد فضي = 4 دراخما = 2 أستاتر = 24 أوبول.
5) مينا = 100 دراخما = 50 أستاتر = 600 أوبول.
6) تالانت = 60 مينا = 600 دراخما = 300 أستاتر = 36000أوبول.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن النقد المكوّن من دراخما واحدة، قد بقي قبل الاستخدام قرابة نصف قرن من الزمن، وذلك قبل أن يقوم الأثينيون في عام 566 ق.م ، بإصدار نقدهم الجديد ذي الحجم الكبير والسميك، غير المنتظم الاستدارة المعروف باسم التيترادراخما، المقدر وزنه بـ 17 غرام، والمعادل في قيمته الشرائية الأربع دراخمات، نقش على وجهه الأول صورة الرأس للربة أثينا معتمرة الخوذة الحربية، بينما نقش على الوجه الآخر صورة لطائر البوم، وهو رمز أثينا « رمز الحكمة » ونقش آخر لغصن الزيتون.
هذا وقد تم العثور في موقع تل دينيت الأثري، على مجموعة من القطع النقدية الأثينية من فئة التيترادراخما التي حملت على الوجه الأول نقشاً جانبياً لرأس الربة أثينا بشعرها المصفف، معتمرة الخوذة المزدانة بأغصان الزيتون، وقد تدلى من أذنها اليمنى قرط جميل، في حين حمل ظهر النقد نقشاً لطائر البوم، وإلى اليسار غصن ذي وريقات نباتية، هذا النقد محفوظ في متحف دمشق الوطني برقم 7255، وزن 17 غرام.
أما المسكوكة الكورنثية التي تم العثور عليها في التل نفسه، والتي ازدانت بنقش زخرفي وتزييني متمثل بالحصان المجنح، وهنا تجدر الإشارة إلى قيام الأثينيين بحالات نادرة جداً، بإصدار بعض المسكوكات الذهبية التي حددت قيمتها الصرفية في مقابل الفضية بنسبة 1\14 بمقدار مسكوكة ذهبية تعادل 14 مسكوكة فضية.

سيراكوز اليونانية


أما في مدينة سيراكوز اليونانية، قام سكانها بإصدار نقد جديد خاص بهم، وذلك بعد صدهم للغزو القرطاجي الذي داهمهم في عام 480 ق.م ، حيث أصدروا بمناسبة انتصارهم على القرطاجيين نقداً تذكارياً، بوزن عشرة دراخمات، حمل أحد وجهيه صورة للربة الحامية للمدينة، محاطة بأربعة دلافين، وعلى الوجه الآخر نقش لرجل يقود عربة تجرها أربعة خيول، وفي أسفل النقش صورة للأسد الإغريقي الهارب، الذي يعبر عن هزيمة جيوش قرطاجة. كما أصدر أهالي سيراكوز نقداً آخر، هو النقد الأسيناري ذو العشرة دراخمات الذي كان يوزع كجائزة للرياضيين الفائزين في الألعاب الأسينارية، وهي الالعاب الرياضية التي بدأ شعب سيراكوز الاحتفال بها بدأً من العام 412 ق.م تخليداً للانتصارات الحربية.
وعلى الرغم من انتشار النظام النقدي اليوناني عالمياً ولفترة طويلة من الزمن، ما لبث أن ظهر خلال الفترة الهلنستية نظام نقدي جديد منافس وهو النظام الفينيقي، الذي اعتمد إلى تخفيض القيمة الوزنية للدراخما إلى 13 غرام، وهذا ما دفع الحكام خلال الفترة الهلنستية إلى سك نقودهم وفق معياري النظامين الأتيكي والفينيقي.
وهنا تجدر الإشارة إلى براعة عمال السكة والضرب الإغريقي وبشكل خاص في أثينا، في مجال تنقية معدن الفضة المستخدم في إصدار مسكوكاتهم الخاصة، وتحريره من نسب الرصاص المرتفعة الداخلة في تركيبته المعدنية، الأمر الذي رفع سوية ومكانة النقد الفضي الأثيني بين المسكوكات الإغريقية وذلك لخلو معدنه الفضي من الشوائب وارتفاع درجة نقائه إلى نسبة 98% وذلك على النقيض من باقي المدن الإغريقية التي عملت على مخالفة النظام الوزني المتبع في ضرب النقود، وتخفيض وزن مسكوكاتها، هذا إلى جانب قيام العديد من المدن اليونانية منذ مطلع القرن الرابع ق.م ، بزيادة نسبة معدني النحاس والرصاص في الخلائط المعدنية المستخدمة في إصدار النقود الفضية، الأمر الذي أسفر عن تداعي قيمتها الشرائية والصرفية نتيجة لتعرضها للغش وعدم نقاء المعدن.

المسكوكات البيزنطية


لعب الموقع الجغرافي الهام الذي تمتعت به مدينة بيزنطة والتي اختارها قسطنطين الأول لتكون مركزاً لعاصمة الإمبراطور الرومانية الشرقية «وبيزنطة هي مدينة صغيرة أنشأها الإغريق في عام 650 ق.م على بحر مروة، انتقل إليها في عام 330م» دوراً في تنشيط الفعاليات التجارية بين الشرق والغرب ولا سيما بعد اعتناق قسطنطين الديانة المسيحية والعمل على رفع مكانة الامبراطورية الجديدة على حساب الإمبراطورية الرومانية القديمة وعاصمتها روما، التي تعرضت أثناء ذلك لغزو القبائل الجرمانية...
ويمكن تعريف الحضارة البيزنطية: على أنها الوريثة الشرعية الوحيدة للحضارة والفنون الكلاسيكية التي استمدت منها أصولها الفنية الأولى وعملت على صقلها وقولبتها وفق المفاهيم الفنية الشرقية التي تركت بصماتها الواضحة في المفهوم الفني البيزنطي حيث أصبحت القسطنطينية ومنذ القرن السادس الميلادي المركز الرئيسي للحضارة والفن البيزنطي، الذي تأثر وبشكل مباشر بالحضارات والفنون الشرقية والمتوسطية، التي تركت بصماتها فيه نتيجة خضوع بلاد الشام والشمال الإفريقي لسيطرة بيزنطة المباشرة، أما على الصعيد السياسي النقدية لبيزنطة فقد سعى الأباطرة إلى توكيد استقلاليتهم عن الإمبراطورية الرومانية الغربية من خلال صكهم لبعض المسكوكات النقدية الخاصة بهم، ونقسمها على الشكل التالي:

1. الدينار الذهبي:

الدينار اسم لوحدة نقدية ذهبية رومانية، مشتق من اللفظ اليوناني اللاتيني «Denarius»، ومن الرومي « Deni »أي عشرة.
وهذا الدينار الذهبي المستدير الشكل «السوليدو الذهبي» الذي حمل على وجهه الأول نقش يتضمن صورة الإمبراطور البيزنطي هرقل أو صورته مع ولديه هرقليانوس وقسطنطين، وإلى جانب كل منها رسم الصليب، إضافة إلى الصليب الذي يتوج الرأس، في حين حمل الوجه الثاني للسوليدوس الذهبي نقش الصليب القائم على أربعة درجات مع بعض الكتابات اللاتينية ذات الطابع الدعائي الديني إلى جانبها مكان وتاريخ الضرب.

2. الدرهم الفضي:

الذي كان نادر الوجود بسبب عدم توفر معدن الفضة في المنطقة، تميز الدرهم الفضي البيزنطي بنقوش الوجه التي حملت صورة الإمبراطور لوحده أو مع ولديه، في حين احتل ظهر الدرهم نقش الصليب القائم على أربع درجات متتالية ومتصاغرة في الحجم. أحيط ببعض الكتابات اللاتينية المحددة مكان وتاريخ الضرب.
3. الفلس النحاسي والبرونزي:
الفلس اسم لوحدة نحاسية أو برونزية اشتقت من الكلمة اليونانية Follos. وهي قطعة نقدية نحاسية أو برونزية ذات قيمة شرائية محددة، تستخدم للقيام بالأعمال التجارية البسيطة، مكونة من أحد الأجزاء التي يتركب من مضاعفاتها كلاً من الدرهم الفضي والدينار الذهبي على أن القيمة المادية لمعدني الذهب والفضة المستخدمان في ضرب السوليدو الذبي والدرهم الفضي إلى جانب صلاحيتها لعمليات التبادل التجاري العالمي، فقد حددت مراكز ضرب هذين النقدين من قبل الإمبراطور البيزنطي الذي أوكل لبعض موظفيه الخاصين أمر الإشراف على المسكوكات الذهبية والفضية ومراقبة دور السكة الإمبراطورية بالنموذج الخاص المحدد من قبل الإمبراطور، وذلك لما تعنيه تلك النقوش من توكيد لسلطة الإمبراطور الذي قام بضرب النقد، وذلك على النقيض من المسكوكات البرونزية والنحاسية ذات القيمة الشرائية البسيطة والانتشار والتداول المحدود التي أوكل أمر الإشراف على ضربها إلى حكام محليين للمقاطعات والأقاليم والمدن وترك لهم حرية اختيار النقوش والتشكيلات المخرفة على وجهي المسكوكة، الأمر الذي أسهم وبشكل ملحوظ في تباين التشكيلات الزخرفية والكتابية بين فلس وآخر طبقاً لدار السك الذي أصدره.
على الرغم من ذلك فقد حملت أغلب الفلوس تشكيلة زخرفية موحدة، تمثلت في صورة الإمبراطور البيزنطي لوحده أو مع زوجته التي كانت تزين وجه الفلس في حين حمل الظهر نقشاً للحرف «M» إلى جانب تاريخ ومكان الضرب المنقوش بالأحرف اللاتينية بشكل كامل، ومثال ذلك الفلس النحاسي المضروب خلال فترة حكم الإمبراطور البيزنطي جستنيان الثاني وزوجته صوفيا 565-578م، الذي حمل مركز وجهه نقشاً من صورة نصفية جانبية له وقد عقد على رأسه العصابة المعقودة إلى الخلف، وتدثر بالرداء الملكي، في حين أحيط النقش المركزي لوجه الفلس بطوق من الكتابات اللاتينية "غير مقروءة" تشير إلى اسم الإمبراطور جستنيان الثاني الذي ضرب الفلس وألقابه التي يحملها، نميز بعضاً من الأحرف اللاتينية المدونة على ظهر النقد التي شكلت مجمل العبارة التالية «DH…CHDIVSPF…VCVS…VS» في حين حمل ظهر النقد مشهداً كاملاً للإمبراطور بلباسه الحربي، وهو يمسك بيده اليسرى الكرة، وبيده اليمنى الصولجان، وإلى جانبه الأيمن من الأسفل نقش لشخص جالس على الأرض، في حين خلف ظهره، رسم شبيه بالصليب المالطي. كما أحيط المشهد المركزي بكتابة لاتينية تشير إلى تاريخ الضرب، مكونة من الأحرف الظاهرة التالية: «IIATVSP+EHCTTI» التي يتوسطها الصليب المالطي، وفي أسفل النقش المركزي نقش كتابي لاتيني يشير إلى مكان الضرب بشكل مرمز، مركب من الأحرف التالية: «CONST» وهو مختصر لمكان الضرب الدال على القسطنطينية.
هذا وقد تميزت النقود البيزنطية ولاسيما الذهبية والفضية بحملها لأسماء المدن الموجودة في آسية الصغرى، في حين أن أسماء المدن المحكومة لم تكن موجودة على النقود، وهذا دليل واضح على عدم وجود دار السكة في المناطق المسيطر عليها من قبل الجيش البيزنطي كمناطق الحدود والنزاع المسلح.

المسكوكات الفارسية الساسانية :


على العكس من المسكوكات البيزنطية التي احتل فيها الدينار الذهبي مكان الصدارة بالنسبة للنقود المسكوكة، فعلى الرغم من قيام الحكام الفرس الساسانيين بضرب النقود الذهبية والنحاسية فقد بقيت الدراهم الفضية زنة الأربعة غرامات هي المسيطرة على المسكوكات الفارسية.
بدأ الفرس الأخمينيون بضرب النقود الفضية منذ أواخر القرن السادس قبل الميلاد، وذلك في عهد الكسرى الأول دارا الأول، هذا وقد استمر الأمر على ما هو عليه في عهد الأسرة الساسانية المنسوبة إلى ساسان وهو الكاهن الأعظم لمعبد « أناهيتا في إصطخر» الذي تمكن من الاقتران بإحدى سليلات الملوك الإخمينيون وأنجب منها عدد من الأولاد والأحفاد، برز منهم «أزدشير» الذي أصبح قائداً للجيش، ومن ثم حاكماً لأحد الأقاليم، وذلك قبل أن تعود الثورة ضد الحكام البارثيين.
والبارثيين هم الذين انتزعوا الحكم من الأسرة الساسانية وفرضوا على بلاد فارس، حيث تمكن القائد ازدشير من تنصيب نفسه حاكماً لبلاد فارس بعد قضائه على النفوذ البارثي في المنطقة، وإعلان نفسه حامياً للديانة الزرادشتية بعد ذلك تولى زمام الحكم« خسرو الثاني 590-627م» الذي قاد الحرب ضد الروم البيزنطيين وفرض سيطرته على بلاد الشام، مصر ومعظم آسيا الصغرى. حيث عمد إلى تخليد انتصاراته على الجيوش البيزنطية، وذلك من خلال إصداره لدرهمه الفضي الجديد المضروب على وزن يتراوح فيما بين 4.11 – 4.15 غرام.

وتميزت المسكوكات الفضية الساسانية المضروبة في عهد خسرو الأول والثاني بشكلها المستدير الذي يحمل على أحد وجهيه صورة نصفية جانبية لخسرو وكسرى فارس، ملتفتاَ بوجهه نحو اليمين ويضع على رأسه التاج وقد كتب في الفراغ الأيمن من النقش اسم كسرى باللغة الفهلوية« وهي عبارة عن لغة مكتوبة ذات أصول آرامية سورية قديمة، انتشرت في بلاد فارس آنذاك». وإلى اليسار منه إلى جانب القسم الخلفي من الرأس، مأثورة تعني الدعاء له بازدهار الملك، أم الوجه الثاني للدرهم فقد تميز بالنقش المكون من موقد النار المقدسة، محاطة بالكاهنان "الموبذان" أو حارسا النار المقدسة «واحد من كل جانب»، وقد كتب في القسم الأيمن منه مكان الضرب بشكل مرمز لا يتجاوز الثلاثة أحرف، وفي الفراغ الأيسر منه سنة الضرب بالنسبة لحكم كسرى.
ويتبادر إلى أذهاننا نوع من التساؤل عن سبب اقتصار بلاد فارس والأقاليم الشرقية على صك النقد الفضي الذي كان أكثر انتشاراً في التعامل والاستخدام من النقد الذهبي؟ وذلك على العكس من الأقاليم الغربية التي اعتمدت نظام الضرب والتعامل بالنقود الذهبية على الفضية التي كانت أقل انتشاراً...؟

على الرغم من تأكيد بعض المصادر التاريخية على أن السبب الرئيسي تحديد نوعية المعدن المستخدم في ضرب النقد، إنما يعود إلى وجود معاهدة معقودة بين كلا الطرفين «الفرس الساسانيين، والروم البيزنطيين»، تلزم الفرس الساسانيين بالاقتصار على ضربهم للنقود الفضية دون الذهبية؟!! غير أن هذه الإجابة التي أوجدها الباحثين لا يمكن لها أن تبرر الوضع حيث أن الحروب التي دارت بين الفريقين لم تكن لتسمح لأي طرف من الأطراف المتنازعة والمتحاربة على الالتزام بشروط ونصوص الاتفاقيات المعقودة فيما بينها، وهذا ما يجعلنا نرفض تلك المبررات الواهية، حيث أن عملية اقتصار الفرس في ضربهم للنقود على معدن الفضة، لابد أن يكون مرتبطاً بعدد من الظروف الاقتصادية، السياسية والاجتماعية التي أوجبت عليهم ذلك، دون أن يكون لهم حرية الاختيار، ومن هذه الظروف:

1. ندرة وجود مناجم معدن الذهب في الأقاليم الشرقية الخاضعة للسلطة والنفوذ الفارسي، وذلك على العكس من الأقاليم الغربية التي خضعت للنفوذ الروماني البيزنطي، التي توفرت فيها مناجم الذهب بكثرة سمحت لها باستخدام الفائض منها في ضرب المسكوكات الذهبية.
2. تأزم الوضع العسكري على الجبهة الفارسية البيزنطية، وما نتج عنه من إفراغ الخزينة الفارسية لمدخراتها من معدن الذهب والعملات الذهبية على عملية إعداد وتجهيز الجيوش الأمر الذي أدى إلى إفقار الخزينة الفارسية من معادن الذهب.
3. قلة وتضاؤل واردات الخزينة الفارسية من الضرائب المفروضة على القوافل التجارية التي كانت تعبر بلاد فارس حاملة الحرير الصيني نحو بيزنطة والغرب الأوربي، إثر اكتشاف الصناع البيزنطيين لأسرار صناعة الحرير والعمل على إنتاجه وتصديره إلى أوربا الغربية، الأمر الذي أدى إلى ضعف موارد الخزينة الفارسية بعد فقدانها لوارداتها الضريبية المفروضة على تلك القوافل التجارية التي كانت تجبى بالعملات الذهبية.

ومهما كانت الأسباب والدوافع وراء عملية تقليص واردات الدولة الفارسية من احتياطي الذهب، فقد كانت الكميات الوافدة إلى خزينة الدولة، سواءً منها المستخرج من المناجم الفارسية أو الآتية من الضرائب المفروضة على العبور والتبادل التجاري بين الشرق والغرب، غير كافية أو قادرة لاعتمادها كمعيار ثابت في تقييم الاقتصاد الفارسي، بسبب ارتباط توفر احتياطي معدن الذهب لدى الخزينة الفارسية، بمجموعة من العوامل والظروف الخارجية المرتبطة بالتجارة العالمية، الأمر الذي دفع الفرس إلى البحث عن معيار اقتصادي آخر مستقل عن التبعية للعوامل والظروف الخارجية، حيث أسهم غنى بلاد فارس بمناجم معدن الفضة النفيسة وذلك من خلال استخدامه في ضرب مسكوكاتهم الفضية الخاصة التي عدلت قيمتها الشرائية بالنسبة للدينار الذهبي البيزنطي وفق نسبة محددة تراوحت قيمتها الشرائية فيما بين 10 – 15 درهم فضي لكل دينار ذهبي، وذلك طبقاً لنقاء المعدن وتوفره في الأسواق.
هذا وقد شاع استخدام الدرهم الفضي الفارسي بين كافة الشعوب والدول والمجموعات البشرية التي كانت تقيم علاقات وصلات تجارية مع بلاد فارس.

المسكوكات النبطية

قامت دولة الأنباط وعاصمتها البتراء على حين غفلة من البطالمة والسلوقيين في مصر والشام، وقوي سلطانها في القرن الثاني قبل الميلاد، حيث استطاعت بسط نفوذها على دمشق لفترة من الزمن فقد احتلت مملكة الأنباط الواقعة إلى الجنوب الشرقي من بلاد الشام، مكان الصدارة بالنسبة للتعامل التجاري، بحيث أصبحت هذه المملكة المزدهرة التي اتخذت من البتراء عاصمة لها مركزاً للحضارة وقبلة للقوافل التجارية الوافدة من كافة أنحاء الجزيرة العربية وبلاد الشام خلال القرن الثاني قبل الميلاد، وكان من نتيجة ذلك تعرف الأنباط وتعاملهم بالمسكوكات والنقود الفارسية الإخمينية، اليونانية ومن ثم الرومانية.
قام الملك الحارث الثاني ملك الأنباط في القرن الأول ق.م 110- 96 ق.م، بضرب للنقد النبطي وفق نظام النقد اليوناني، الذي اتخذ نقش الوجه فيه شكل برفيل جانبي لرأس محارب يرتدي الخوذة الحربية ويشيح بوجهه نحو اليمين، في حين حمل الوجه الآخر للنقد نقش لربة النصر.

أدى الازدهار والغنى الكبير الذي حازته ووصلت إليه مملكة الأنباط نتيجة تربعها على معابر الطرق التجارية، إلى طمع العديد من الدول الكبرى التي سعت وعملت جاهدة لفرض نفوذها عليها وضمها إلى سلطانها بغية السيطرة على طرق القوافل التجارية المتوجهة نحو مصر، اليمن والجزيرة العربية، وهذا ما دفع الإمبراطور الروماني تراجان إلى توجيه حملة عسكرية كبيرة في عام 106م، استطاعت ضم هذه المملكة إلى النفوذ الروماني، وتخليداً لهذه المناسبة، قام الإمبراطور بإصدار مسكوكة كبيرة الحجم عرفت باسم «ستيدتس» نقش على صفحتها الأولى صورة جانبية لرأس الإمبراطور تراجان مكللاً بالغار، ومحاطاً بالكتابات اللاتينية المعبرة عن ألقابه التي تمتع بها في حين حملت الصفحة الثانية من المسكوكة صورة لامراًة تمثل البلاد العربية وإلى جانبها نقش لحيوان الجمل، وقد أحيط النقش المركزي بكتابة لاتينية تحمل عبارة «إلحاق العرب» أو ما معناه إمارة عربية تحت النفوذ الروماني.
غير أن فترة الضعف التي مرت بها القوى الكبرى خلال هذه الحقبة، ما لبثت أن دفعت بملوك بترا إلى الاستقلال ولفترات من الزمن عن نفوذ هذه القوى في المنطقة والتوسع في حدودهم الشمالية حيث تم العثور على أحد نقود الحارث الثالث الفضية المضروبة في دمشق تمثلت بنقش الوجه الأول من برفيل جانبي لشيخ يتجه بوجهه نحو اليسار، وإلى جانبه نقش لجمل يقف بالقرب من شجرة... أما الوجه الثاني للنقد فقد حمل في مركزه نقش لصورة امرأة أو رجل ترفع علامة النصر، وقد كتب خلفها اسم الحارث باللغة اليونانية إلى جانب كلمة «فيلهلين – أي محب اليونان» وللحارث العديد من النقود التي تختلف في أشكالها.
وهناك نقداً آخر للملك عبادة الثاني يحمل في مركز الوجه الأول صورة جانبية لرأس الملك نقش على يمينه باللغة النبطية اسم عبادة الثاني ملك الأنباط، وفي رأس النقد عبارة السنة الثانية «أي السنة الثانية من حكم عبادة الثاني» في حين حمل الوجه الآخر للنقد صورة العقاب.

في حين تميز نقد الملك النبطي مالك الأول، بنقش وجهه الذي حمل صورة جانبية لرأسه، وعلى الوجه الآخر للنقد نقش لرأس عقاب وإلى جانبه عبارة معناها: الملك مالك ملك الأنباط.
كما تم العثور على نقد آخر يعود إلى الملك الحارث الرابع 9ق.م-40م، تميز بنقشه المركزي الذي اتخذ شكل جانبي لرأس رجل يتجه بوجهه نحو اليمين وقد أطر بكتابة آرامية وصف فيها نفسه المحب لشعبه.
وهنا يمكننا القول أن جميع المسكوكات النبطية سواءً منها الفضية أو النحاسية التي توالت في إصدارها خلال 170 عاماً من التاريخ النبطي، وقد تميزت بنقوشها الكتابية التي حملت أسماء الملوك والحكام الأنباط التي استخدم في تدوينها اللغتين اليونانية والآرامية.



BY: Nasser Ibrahem 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق